محليات

مصير المخيم 009: البازار السياسي.. ومحنة النازحين والدولة معاً

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

في 25 تموز من العام 2023، أي قبل أشهر من زوبعة الاستفاقة الرسمية المتأخرة على ملف النزوح السوري الضاغط في لبنان، نشرت "المدن" مقالاً عن سابقة قضائية سجلت في المخيم 009 في منطقة زحلة العقارية، تُرجمت في قرار صدر عن قاضي الأمور المستعجلة، لم يُقبل استئنافه، وقضى بإخلاء المخيم من شاغليه، وتسليم الأرض "سليخ" (خالية) إلى أصحابها.

إعاقة القانون
جاء ذلك بعد 10 سنوات من تحوّل عقارين كان الشاويش يضمنهما قبل وقوع الحرب في سوريا كأراض زراعية، مخيماً غير شرعي. وقد حصل هذا المخيم على رقم من مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، مستفيداً من مساعدات الجهات الداعمة وخدماتها.

إدعاء وكلاء الأرض وأصحابها على الشاويش، جاء إثر خلافات بينهما نتجت عن توسيع حجم المخيم ليضم 40 خيمة، يقطن كل منها وفقاً لإفادات شاغلي المخيم حينها، ثلاث عائلات، حوّلت المكان إلى تجمع سكاني صبّت المياه الآسنة الناتجة عنه في نهر الليطاني. وهذا ما جعل مالكي الأرض ملاحقين قضائياً من قبل المصلحة الوطنية لنهر الليطاني.

لم ينفّذ القرار القضائي بإخلاء المخيم لأشهر طويلة، ولا استرعى ذلك اهتماماً كافياً من الجهات السياسية، يدفعها على الأقل لتبني مطلب أصحاب الأرض. فمواجهة الوجود السوري غير الشرعي، لم يكن قد تحول إلى "trend" في السياسة والإعلام حينها. وعليه استسلم الجميع أمام التعقيدات الإدارية، والتي ترتبط بمنع إقامة أي مخيم جديد في أي بقعة من نطاق محافظة البقاع، وفقاً لما يصر عليه المحافظ كمال أبو جوده منذ سنوات. وتريثوا مع السلطات الأمنية بتنفيذ القرار القضائي، بذريعة حاجتها لغطاء السلطة السياسية التي تخضع لها، ولمؤازرة الجيش اللبناني، تداركاً لما قد ينتج عن عمليات الإخلاء بالقوة من تصادم مع سكان المخيم الذي يضم مجموعة كبيرة من العائلات مع أطفالها، خصوصاً أنها لم تلمس من المنظمات الدولية الداعمة أي تجاوب في اجتراح حلول ملائمة.

وهكذا غرق الملف في بحر الإهمال، وكاد الأمر يتحول سابقة في تجاهل القرارات القضائية والتمنع عن تطبيقها على مخيمات النازحين، كما في إرساء أمر واقع من الاستقواء بموقف المنظمات الدولية الداعمة للنازحين، في تجاوز القوانين والأنظمة المرعية. إلى أن بدأ سكان المخيم بتفكيكه منذ يوم أوّل من أمس، بإشراف بضعة عناصر من شرطة بلدية زحلة. حيث آزرهم في بداية تطبيق القرار القضائي دورية محدودة من الجيش اللبناني، واكبها عناصر من مخابرات الجيش، التي أبلغت شاويش المخيم بضرورة إخلائه فوراً. في وقت سُجّل فيه غياب القوى الأمنية عن مسرح عملية التفكيك، مع أنها المعنية الأولى بتأمين المؤازرة للمأمور المكلف بتنفيذ القرار القضائي.

هيبة الدولة
صب البازار السياسي والإعلامي المرافق لفتح ملف السوريين المقيمين على الأراضي اللبنانية، في مصلحة أصحاب الأرض بعد نحو سنة من المماطلة في تنفيذ القرار القضائي. فأحسن هؤلاء الاستثمار في الخطاب التحريضي المرافق للمزايدات السياسية في هذا الملف، حتى وصلوا إلى مبتغاهم.

لم يكن مهماً بالنسبة لهم في رصيد من سيصب هذا "الإنجاز"، طالما أنهم سيستعيدون الأرض المتنازع عليها خالية من الشوادر التي غطت العقارين اللذين تشغلهما. وقد تساوت بالنسبة لهم القوات اللبنانية مع التيار الوطني الحر في تشغيل اتصالاتها مع مرجعياتها السياسية، فجاء تناغمها موافقاً لمطلب أصحاب الأرض. أنجزت المهمة بتنسيق بين بلدية زحلة ومخابرات الجيش، أمّن غطاء كاف لشرطة البلدية، فأزيل المخيم بهدوء، وتحت إشراف بضعة من عناصر الشرطة غير المسلحين، ومن دون أن تسجل ضربة كف واحدة.

عِبر عدة يمكن استخلاصها من خلال عرض خلفية هذه القضية. إلا أن أبرزها يبقى فيما يستنتج حول التداعيات الأساسية للإهمال في تطبيق القوانين والأنظمة المرعية، ودورها في تعزيز الزبائنية السياسية. هذه الزبائنية التي تفقد أرضيتها متى طبقت القوانين وساد العدل في حفظ الحقوق.

وأما إخضاع مخيمات النازحين للأنظمة اللبنانية فتبين انه لا يحتاج سوى لهيبة دولة، هذه الهيبة التي فقدت السلطات اللبنانية فرصة فرضها على المجتمعات المضيفة كما على المقيمين السوريين في أراضيها، فغرق الملف فيما غرق به من تراكمات ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية.

عراضات سياسية
فلو طبق القرار القضائي منذ البداية لما جرى استغلال أصحاب الأرض في حملة تحريض بملف النزوح السوري. ولما سجلت القضية كإنجاز برصيد أي طرف سياسي. فالقضية هنا فردية ومحصورة بمخيم واحد، كما أن القرار القضائي بإخلاء المخيم سبق الحملة المتأخرة للمطالبة بتطبيق القوانين اللبنانية على النازحين السوريين، علماً أنه لم يلق الدعم الكافي إلا من ضمن هذه الحملة.

أما تصوير إخلاء المخيم في ظل حملة التحريض كإنجاز ونصر في معالجة ملف الوجود السوري في لبنان، فلا يقع إلا في إطار العراضات السياسية. هذه العراضات التي جعلت نواب وممثلين عن الأحزاب، يلوّثون أحذيتهم في أرض المخيم الذي يقاضى بالإخلاء، لاهثين وراء إطلالات إعلامية في حصاد لحظة تفكيك الشوادر، وكأنها تتوج آخر الجهود في طي صفحة ملف النازحين عموماً، على عودة آمنة ونهائية لهم إلى بلادهم.

مصير النازحين
ولكن تفكيك المخيم لا يعني بأن سكانه اقتنعوا بالعودة إلى بلادهم. بل بات معظم هؤلاء ليلة ثانية أمس في العراء، بانتظار من يأتي لهم بمأوى بديل، وعلى الأراضي اللبنانية. وإذا كان هؤلاء قد اقتنعوا بأن البديل مستعص في كنف محافظة البقاع، التي يصر محافظها على عدم السماح باستحداث أي تجمع جديد للسوريين في القرى الخاضعة لمسؤوليته، لا يبدو أن ذلك سيشكل دافعاً صلباً يدفعهم قسراً إلى بلادهم.

فالعودة المنشودة كما بات معلوماً لا يحققها تضييق الخناق على النازحين. لا بل يخشى من أن يؤدي هذا التخنيق إلى خلق "كانتونات" محمية مذهبياً، أسوة بما يحصل حالياً في القرى السنية التي يتقاطر إليها المشردون من تجمعاتهم، مع ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من فقدان للتوافق السياسي حول الملف وطرق معالجته.

استفاقة الدولة، ولو المتأخرة، على تداعيات هذا الملف، تتطلب الحفاظ على هذا التوافق، لمواجهة سلة التجاوزارت التي تسبب بها، والتي تجعلها بحاجة لاجتراح قوانين وإجراءات جديدة من أجل تطبيق القوانين السائدة.

الإهمال الرسمي المزمن
إقتراحات القوانين المعروضة على طاولة أكثر من لجنة نيابية، تشكل أمثلة واضحة عن الحاجة الملحة لمعالجة أثار الإهمال المزمن لهذا الملف. بينما كان يمكن أن تنتفي الحاجة لمثل هذه الاقتراحات لو لم تنأى الدولة بنفسها عنه منذ البداية، لا بل حوسبت على إهمالها له، وألزمت على ضبط التدفق العشوائي للنازحين عبر مختلف المعابر، وتمددهم في المدن والقرى على قياس الأطماع التي عبّر عنها أصحاب الأراضي والممتلكات في استغلال الواقع غير الشرعي لهؤلاء. ولو فرضت الدولة أنظمتها على الهيئات والمنظمات الدولية الداعمة، وأمسكت بنفسها بداتا الوافدين إلى أراضيها بدلاً من استجدائها من مفوضية اللاجئين. ولو أنها فرضت هيبتها في منع إقامة أي تجمع سكاني على مصبات الأنهر مثلاً وحاسبت كل من تواطأ في ذلك من منظمات وأصحاب ممتلكات خاصة. لو أنها طبقت القوانين المرعية بالنسبة للعمالة الأجنبية منذ البداية، وقبل أن يتمدد هؤلاء في مهن حرة محظور عليهم مزاولتها. وحتى لو تشددت في تطبيق تسيير المركبات غير المرخصة وفي تشغيل خطوط الهاتف من دون أوراق ثبوتية.

أما وقد أهملت الدولة اللبنانية كل ذلك وغيره بالتأكيد، فبتنا اليوم أمام نموذج المخيم 009، الذي لن يؤد تفكيكه سوى لمعاناة إنسانية يتسبب بها لأهله، ولكن من دون أن يسجل ذلك في خانة الإجراءات التي تضع الملف على سكة التنفيذ الجدي لخطة عودة السوريين إلى بلادهم. فتعقيدات الملف حالياً أبعد من أن تُحل عبر تفكيك مخيم أو اثنين أو مئة. فمثل هذه الإجراءات تحفز النزوح الداخلي لهؤلاء بحثاً عن بيئة تحفظ بقائهم على هذه الأرض، وتوقعاتهم الدائمة هي أن تتلاشى الصحوة المتأخرة للدولة أو أقله تفقد فعاليتها.

 

شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا